أدخل كلمة للبحث

-- حيوانات وأرقام --

فذلكة

لو حدث وهبط على الأرض كائن فضائي ما – مثلما يفترض جماعة الخيال العلمي- وتأمل البشر جيدا، ثم سألناه: ما أهم ما لاحظته حول طريقة عمل العقل البشري على كوكب الأرض لقال : ههو تقديس الحيوانات والأرقام أكثر من أي شيء آخر.
ستجد الفلاسفة يصفون الإنسان بأنه حيوان ناطق أو مؤمن (سقراط)، أو حيوان اجتماعي أو عاقل أو سياسي (ارسطو) أو حيوان ميتافيزيقي (شوبنهاور) أو حيوان متدين ومتمذهب (مارك توين)...الخ الخ...وإذا جئت الى الشارع فإنك كثيرا ما سوف ترى الناس أمام شاشات التلفزيون يتفرجون على مشهد أسد ينقض على غزال ويقطعه إربا إربا، بكاميرات عالية وصور فصيحة وبالتصوير البطيء (والغريب أن اسم القناة سيكون في الغالب  national geographic...كأنك ستجد منطق الحيوان المفترس أينما ذهبت من الجغرافيا وحيثما بحثت عن وطن على كوكب الإنسان الذي هو ايضا حيوان متفلسف (بليز باسكال).
الشيء الآخر الذي سيستوقف "ميكروميغاس Micromegas" بطل "فولتير" الآتي من الفضاء في القصة الفلسفية الشهيرة التي تحمل اسمه هو هيمنة الأرقام على كل شيء في العالم وفي التعامل البشري، وهو ما سيدفع ميكروميغاس إلى التساؤل : لماذا تراهم يصرون على الحقيقة الرياضية وحقيقة الحتمية  الحيوانية؟...وسوف ننتظر قرنا ونصف قرن من الزمن قبل ان يأتينا "ماكس فون فريش" ليقول: حذار فالحيوانات أيضا تجيد الحساب.

تنويعات
يحيلنا التركيز المرضي على الصياغة الرياضية للعالم على منحى العولمة الذي هو مثل منحى العلم الحديث عموما، إذ يهدف دائما إلى التنميط والنمذجة. ويبتغي الوصول إلى "مَنظمة" الوجود البشري، هذا الأخير الذي لم يتوقف عن التعبير عن التبدل والنزوع صوب تغيير الجلد. وجود حرباوي بشكل جوهري، رغم أننا نتعرف بيسر كبير على "الإنساني" داخل نشاط الإنسان، ونتعرف على ثابت لا اختلاف فيه، ولكننا نلمح مباشرة متغيرات ثابتة على تغيرها. الإنسان كائن مركب.مخاتل.متبدل.لا يثبت على حال.متناقض.شاذ.متطرف.هش.قوي.عبقري.تافه.يصارع طبائعه حينا ويتمتع بالخضوع لها حينا. ولا ثابت في تاريخه سوى التحول والمفاجاة. لهذا يصعب على العلوم المنهجية الباحثة عن النماذج والأنطمة أن تحيط به. وربما يحدث أن تخضعه لهذه المنظومات بقوة، فتكون النتيجة الاستعمار مرة والاستئصال العرقي مرة، والجرائم ضد الإنسانية مرة ثالثة ورابعة وأكثر.
في عام 1939 (ويا له من تاريخ هام!)  نشر الكاتب الانغليزي الكبير هربرت جورج ويلز كتابا هاما عنوانه "النظام العالمي الجديد The New World Order" يبشر فيه بنظام سياسي علمي اجتماعي مشكل من ميراث اليمين واليسار معا، سيأتي لتحسين الظرف البشري. وبعد ست سنوات ملأتها الحرب العالمية بما فيها من الفوضى العالمية بدلا من النظام العالمي سيكتب كتابه/الوصية " العقل في نهاية مساره (Mind at the End of its Tether  نافضا يده من البشرية جمعاء، ومعلنا بأن عصر الإنسان قد ولى، وانه لا بد من حلول "تطور" ما لهذا الكائن الذي لم يعد جديرا بالحياة...كان ذلك عام 1945 (ويا له من تاريخ هام!).
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: أي الرجلين بين ويلز في الثانية والسبعين وويلز في الثامنة والسبعين علينا ان نصدق لكي نأخذ صورة عن الإنسان عموما وعن إنسان تلك الفترة...؟
الغالب هو أن ويلز نفسه وهو أحد "الإنسانيين" الكبار، وهو اليساري الفابي الحالم بغد أفضل للإنسان الفقير الذي كانه هو وأسلافه، هو نفسه ويلز الذي نعرف انه أحد الرجال الهامين الذين فكروا وبشروا بالنظام العالمي الجديد -الذي يعد واضع مصطلحه الذي صار شائعا على كل الألسنة. نظام ربما يضمن من خلال المعرفة القدرة على الحلم بغد مختلف لا يحيل على كوابيس الأمس مثلما حدث في القرن العشرين، نظام يحقق اليوطوبيا ويغير خريطة الأشياء ولربما "يعيد القدرة على إعادة الانبهار الى العالم" حسب تعبير هايديغير الشهير.
إحدى الاعمدة التي يقوم عليها هذا النظام هو الحلم الحداثي بإنسان جديد. إنسان بديل يعد "تطورا" لإنسان الأمس المليء بالتناقضات، والذي يحلم احلاما ملائكية فيما قلبه مليء بالغرائز الحيوانية. يبرر هذا الأمر الحرب الضروس على التقاليد التي يقودها منظرو النظام العالمي الجديد، الحرب على الأخلاق ذات المنشأ الديني لفائدة الأخلاقيات التي هي ائتلافات إنسانية، والتي يمكن للغالبين من مهندسي الحياة أن يتصرفوا فيها كما يحلو لهم، فتجدهم في عام حالمين وتجدهم بعد ست سنوات خائبين قانطين (مثلما كانت الحال حال ه.ج.ويلز) ...
حرب على الدين والأخلاق والقيم الموروثة تعيدنا إلى القياس السقراطي ثم الأرسطي القديم للإنسان على الحيوان مع إضافات معينة، تحدد فروقا معينة بين الإنسان والحيوان، مع الإقرار بحيوانية الإنسان...
مسار العولمة يذهب في اتجاه مختلف لمسار الإنسانية المعروف منذ أقدم الأزمنة، وربما معاكس له تماما، إذ تعيدنا الحقيقة الرياضية للعالم إلى نقطة التخلص من الصفات الزائدة لكي تعود بالإنسان إلى حيوانية آلية تحرمه من الذاكرة والتاريخ ... من الندم والمراجعة...من العطف والحِلم والسماحة...على أن يكون أبعد ما تحلم به هذه المنظومة هو الحصول على شخص مسالم، او جسد طيع (كما يقول ميشال فوكو)...

زبدة القول
ربما كان في ذهن "غوستاف فلوبير" تصور للحيوانات الأليفة وحيدة الاتجاهات وخطية المنظومة الأخلاقية حين قال قولته الشهيرة في نقد الخيال الرومانسي – على هامش نقده اللاذع للامارتين": "تصوير ملاك أيسر بكثير من تصوير امرأة"...والواقع هو أن واجبات الحقيقة وإلزاماتها الأدبية والفلسفية عسيرة على الهضم في العموم، وفهم الحقيقة البشرية في إطار من "التركيب" الذي دارت حوله فلسفة إدغار موران قد وجد له حلا تبسيطيا من خلال اختزالين اثنين: الحقيقة الفيزيائية اوالبيولوجية التي تفسر الإسان حسب أصوله الحيوانية. و كذلك الحقيقة الجبرية/الحسابية التي نجد لها تمظهرين متقابلين؛ الأول في الصياغات الرياضية التي تجد فيها انموذجها الأجلى والأكثر فاعلية، وهي صياغات تعج بها علوم الطبيعة (حسب التقسيم الجميل لفيلهالم ديلطاي: علوم الطبيعة وعلوم النفس او العلوم الانسانية كما درجنا على تسميتها )... والثاني في المظاهر الإحصائية التي تعج بها العلوم الإنسانية.
سيعود ميكروميغاس ليقول ملخصا حكاية الحيوانات والأرقام: هنالك مشكلتان؛ الأولى هي أن الإنسان لا يستطيع أن يكون كلبا يطيع سيده مثل باقي الحيوانات الأليفة. والثانية هي أن العقل الرياضي يقدر على كل شيء ولا يجرؤ على شيء جديد، لأنه مبرمج على إيجاد ما تعلم إيجاده وما تعلم كيفية إيجاده

شكرا لك ولمرورك